يواجه القطاع المصرفي اليمني، أزمة معقدة، استفحلت مع بدء الانقسام النقدي وحظر الطبعة الجديدة من العملة في مناطق نفوذ جماعة الحوثي، وازدواج القرارات المصرفية، بين البنك المركزي في عدن وصنعاء.
في أواخر شهر ديسمبر من العام 2019، اتخذت جماعة الحوثي، التي تسيطر على العاصمة صنعاء، ومناطق شمال البلاد، قراراً بحظر الطبعة الجديدة من العملة اليمنية، التي طبعتها الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، بشكل نهائي في مناطق سيطرتها، وهو ما أدى إلى أزمة نقدية كبيرة، أوجدت معها قيمتين مختلفتين لعملة واحدة، وتسببت بتدهور قيمة الريال اليمني، في المناطق التي تسيطر عليها الحكومة المعترف بها دولياً.
وكانت الحكومة قد لجأت إلى طباعة كميات كبيرة من العملة اليمنية، في الخارج، بعد قرار نقل البنك المركزي اليمني، إلى العاصمة المؤقتة عدن، لمواجهة النفقات والمصروفات، ودفع الرواتب لموظفي القطاع المدني، والعسكري، لكن جماعة الحوثي، كان لها رأي آخر، لتتخذ قرارا مضادا خلق تداعيات كارثية على الاقتصاد اليمني، بشكل عام، وعلى قيمة العملة اليمنية، بشكل خاص.
قرار نقل البنك المركزي اليمني إلى عدن، من قبل الرئيس السابق عبدربه منصور هادي، في سبتمبر من العام 2016، جاء بعد أن اتهمت الحكومة جماعة الحوثي بالاستيلاء على الاحتياطي النقدي في البنك المركزي بصنعاء، والمقدر بنحو خمسة مليارات دولار، من خلال صرف 100 مليون دولار شهرياً مجهود حربي، لتمويل عملياتها العسكرية محلياً، وأوقفت صرف رواتب كل الموظفين ممن يخالفونهم الرأي بالجهاز المدني والعسكري للدولة.
في نهاية 2014، كان حجم الاحتياطي النقدي، من العملة الصعبة، تقدر بـ أربعة مليار و700 مليون دولار، قبل أن تتلاشى بشكل تدريجي، وتصل في العام 2016، إلى نحو مليار دولار.
رداً على قرار نقل البنك المركزي اليمني، إلى العاصمة المؤقتة عدن، حظرت جماعة الحوثي الطبعة الجديدة من العملة في مناطق سيطرتها، ذات الكثافة السكانية الأكبر والثقل الأعلى في حجم النشاط التجاري، وكان لهذه القرار عواقب وخيمة على الوضع المعيشي لليمنيين، وتركت آثار كثيرة منها ارتفاع عمولة التحويلات المالية بين المحافظات اليمنية، وصعوبة التبادل التجاري وتدفق السلع والبضائع، بين المدن والمحافظات في اليمن.
وفاقم القرار من الوضع الإنساني والمعيشي للمواطنين، وتعطيل مصالحهم، حيث تأثرت فئات واسعة من المواطنين الذين يمتلكون سيولة نقدية من الطبعة الجديدة، إضافة إلى حرمان المتقاعدين وبعض موظفي الجهات الحكومية من استلام رواتبهم التي يتلقونها من الحكومة المعترف بها دولياً.
لم تكتفِ جماعة الحوثي، بقرار حظر الطبعة الجديدة، بل صعدت من إجراءاتها المتشددة تجاه البنوك اليمنية بُحكم تواجد المراكز الرئيسية للبنوك التجارية، وغالبية شركات ومنشآت الصرافة، في صنعاء.
وفي حين بدأ البنك المركزي اليمني المعترف به دوليا في عدن يطالب البنوك بالإفصاح عن كافة البيانات المالية، وغيرها من المطالب، إلا أن جماعة الحوثي جابهت تلك المطالب بقوة حيث وجهت تحذيرا للبنوك من التعامل مع البنك المركزي اليمني في عدن ووصلت هذه التدخلات من قبل الحوثيين في إدارة القطاع المصرفي، إلى درجة استخدام القوة، وهو ما تمثل باقتحام أكثر من عشرة بنوك ومصارف في صنعاء، خلال العاميين الماضيين.
تسببت أزمة الانقسام النقدي، في تدهور قيمة العملة المحلية في مناطق الحكومة المعترف بها دولياً، من خلال تركيز عملية المضاربة والطلب على العملات الأجنبية في السوق المصرفية بمناطق الحكومة المعترف بها دولياً، لتوفير الكميات اللازمة لاستيراد الوقود وكافة السلع الأساسية والاستهلاكية، في ظل تراجع إيرادات البلد من النقد الأجنبي.
انقسام العملة
منذ اللحظة التي اتخذ فيها الحوثيون، قرار حظر الطبعة الجديدة من العملة الوطنية بشكل نهائي في مناطق سيطرتهم، بدأت الفجوة تتسع في قيمة الريال بين الطبعة الجديدة والقديمة، ومع تزايد الفارق، تولدت أزمات وإشكاليات جديدة، تبعاُ لذلك كان منها ارتفاع عمولة الحوالات النقدية المحلية، بشكل مضطرد إلى أن تجاوزت العمولة نحو 100% من قيمة الحوالة المالية.
وشكلت هذه الأزمة، واحدةّ من أخطر الأزمات التي عصفت باليمنيين، وفاقمت من معاناتهم المعيشية، وأصبح وجود عملتين مختلفتين من العملة اليمنية أمرا مفروضا على الواقع، من خلال الطبعة الجديدة في محافظات الحكومة المعترف بها دولياً، والقديمة في مناطق سيطرة الحوثيين، دون أن تقدر الحكومة على عمل شيء لردم تلك الفجوة، رغم امتلاكها الكثير من الأدوات الاقتصادية، التي لم تستخدمها خشية الإضرار بالمواطنين الساكنين في مناطق الحوثيين.
كما خلقت عملية الفارق في سعر الصرف في المحافظات اليمنية مشاكل عديدة وتعقيدات كثيرة، ابتداءً بانهيار الأوضاع المعيشية وارتفاع أسعار السلع، وإيجاد سوق سوداء للمضاربة بالطبعة الجديدة والقديمة، وكذلك دفع الناس للتعامل بالعملات الأجنبية، خصوصاً في الحوالات المالية والمعاملات التجارية بين مناطق الشرعية ومناطق الحوثيين، وهو ما كان له تأثير مباشر في ضرب قيمة العملة الوطنية وتآكل قيمتها الشرائية.
وأدى اشتعال الحرب الاقتصادية وازدواج القرارات المصرفية، بين بنكي عدن وصنعاء، إلى وضع تعقيدات كثيرة، أمام النشاط المالي والمصرفي، وتراجع النشاط التجاري والتنموي في عموم محافظات الجمهورية.
ارتفاع عمولة الحوالات النقدية
من أبرز انعكاسات الانقسام المصرفي في اليمن منذ سنوات، قيام شركات الصرافة والتحويلات بفرض رسوم كبيرة على الحوالات المرسلة بالعملة المحلية من المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة، إلى مناطق سيطرة الحوثيين الذين يعتمدون طبعات قديمة من العملة بعضها مهترئة، في وقتٍ تثير فيه هذه الرسوم سخطاً متزايداً، نظراً لكون الأسر اليمنية التي تعيش بعضها في أوضاع تشبه المجاعة تدفع الفارق، وصولاً إلى الشبهات المتصلة بقانونية ومبررات شركات الصرافة لأخذها.
قرار الحظر النهائي للطبعة الجديدة كان في أواخر 2019 ومع منتصف العام 2020 ارتفعت عمولة الحوالات المالية من مناطق الحكومة إلى مناطق جماعة الحوثي بنحو 30% واستمرت بعد ذلك بالارتفاع إلى أن وصلت في أواخر 2021 إلى 100% من قيمة الحوالة النقدية.
ساهمت حالة الانقسام المصرفي، في توسع ظاهرة انتشار السوق الموازية للمضاربة بالعملة، سواء النقد الأجنبي أو المحلي، بشقيها من الطبعتين القديمة والجديدة، وفقد معه القطاع المصرفي الرسمي، جزء كبير من النشاط المالي، فضلاً عن تزايد ظاهرة إحلال النقد الأجنبي في التعاملات المالية والتجارية، بين المواطنين، وهي ظاهرة خطيرة، تسير في طريق أحادي الاتجاه، تقود للقضاء على العملة المحلية، فالنقص في وسائل الدفع المحلية المستقرة تحفز الرغبة لدى التجار وأرباب الأنشطة التجارية والاقتصادية، إلى استخدام النقد الأجنبي، كوسيلة للدفع المحلي، وبناءاً عليه، يتم تحديد قوائم أسعار السلع والغذاء والخدمات.
تأثير الأزمة على القطاع المصرفي
انعكست الخسائر والأضرار التي تعرض لها القطاع المصرفي الرسمي، في البلاد، على مستوى جودة وأداء الخدمات التي يقدمها القطاع البنكي، للعملاء والمودعين، على مدى الفترات الماضية.
وتصاعدت شكاوى العملاء والمودعين، من تردي الخدمات المقدمة من البنوك، فضلا عن رتابة المعاملات في البنوك، والتي باتت تأخذ وقتاً أطول، خلال إنجاز أدنى معاملة مالية.
وأصبح الكثير من المودعين، والعملاء، غير قادرين على سحب مدخراتهم وودائعهم، من البنوك، بعد أن تعرضت غالبية البنوك، إلى خسائر مباشرة، نتيجة عدم قدرتها الوصول إلى استثماراتها في أذون الخزانة، لدى البنك المركزي اليمني، بصنعاء، عقب 2015، وبعد سيطرة جماعة الحوثي، على إدارة البنك.
ومثلت تلك المعضلة أولى الضربات التي تلاقاها القطاع المصرفي اليمني، حيث حدت من قدرته بشكل بالغ، على الإيفاء، بالتزاماتها أمام المواطنين، والعملاء.
ولم تقتصر التحديات والصعوبات التي واجهت القطاع المصرفي، على العجز في الإيفاء بالتزاماته المالية للمودعين والعملاء، حيث تتابعت الكثير من الإشكاليات والصعوبات، التي كبلت أداء ونشاط القطاع البنكي، الأمر الذي أدى إلى ازدهار شركات ومحلات الصرافة التي انتشرت بطريقة متسارعة، خلال سنوات الحرب، فضلا عن تأثيرات الحرب على القطاع المصرفي في علاقاته الدولية، فقدت فرضت العديد من الإجراءات التي اعاقت سهولة التحويلات من وإلى اليمن.
أزمة السيولة
خلال فترة الحرب، عانت البنوك اليمنية من أزمة حادة في السيولة، أدت إلى تراجع النشاط المصرفي، وتدني مستوى الخدمات، فضلا عن عجزها عن الاستثمار في السندات الحكومية، وتآكل الأصول والاحتياطي القانوني، الذي كان مودع لدى البنك المركزي اليمني بصنعاء.
وقال مدير بنك تجاري، إن الحرب أثرت بشكل بالغ، على القطاع البنكي، وظهرت العديد من التحديات، التي واجهت عمل وأداء البنك، وحدت من نشاطه المصرفي، موضحاً أن الزيادة المطردة في شركات الصرافة على حساب البنوك، ساهم في وضع إشكاليات كثيرة على القطاع المصرفي، كما ساهم أيضا في تدهور قيمة العملة المحلية.
ويشير إلى أنه تم الترخيص، لأكثر من ألف شركة صرافة حلت بعضها مكان القطاع المصرفي وتقوم بتقديم نفس الخدمات من فتح حسابات واستقبال ودائع العملاء، وهذا يؤثر على أداء ونشاط البنوك التجارية، على حد تعبيره.
وطالب بضرورة عودة عمل شركات الصرافة، وفق الإطار الذي يحدده لها القانون، وهي إرسال واستقبال الحوالات النقدية، ومصارفة العملات الأجنبية، فقط، مشيراً إلى أن فتح حسابات أرصدة للعملاء، مخالف للقانون، ويُسهل عملية غسيل الأموال، والمضاربة في العملة، خارج القطاع المصرفي الرسمي.
ظاهرة الدولرة
يواجه القطاع المصرفي الرسمي، العديد من التحديات الأخرى، حيث تشير بيانات حديثة، عن عجز الدولة عن الوفاء بالتزاماتها للقطاع المصرفي والتي بلغت 2.502 تريليون ريال يمني، موزعة بين 798، 1 تريليون ريال يمني، (أذون خزانة) و704 مليار الاحتياطيات القانونية للبنوك التجارية والإسلامية في البنك المركزي، ما أدى إلى عجز البنوك عن الوفاء بالتزاماتها لعملائها.
وساهمت عملية الانقسام وحظر الطبعة الجديدة من العملة في مناطق جماعة الحوثي، بانتشار ظاهرة الدولرة في مفاصل الاقتصاد الرسمي والعشوائي، حتى باتت إحدى المعضلات التي تواجه القطاع المصرفي اليمني.
كما أن زيادة القروض المتعثرة والتي ارتفعت نسبتها إلى %25 من إجمالي القروض والسلفيات المقدمة من القطاع المصرفي، مع توقعات باستمرارها في الارتفاع الأمر الذي سينعكس على شكل تدمير أو تلف للأصول النقدية.
مسار لا متناهي من التعقيدات، مرً بها القطاع المصرفي اليمني، منذ بدء الحرب في أواخر 2014، وسيطرة جماعة الحوثي على مؤسسات الدولة والبنك المركزي اليمني، بيد أنها لم تتوقف، عند هذا المنعطف، حيث ماتزال الضربات تتوالى تجاه القطاع البنكي، في مناطق سيطرة الحوثيين، في ظل استمرار الانقسام النقدي وازدواج القرارات المصرفية.
دعوات لتوحيد السياسة النقدية
وسط تعقد أزمة القطاع المصرفي اليمني، يقود فريق الإصلاحات الاقتصادية، تحركات لاحتواء الأزمة لتوحيد السياسة النقدية، لما لها من أثر في معالجة كثيرا من الأزمات الاقتصادية.
وفي مطلع مارس من العام الجاري، أطلق فريق الإصلاحات، مبادرة لتوحيد السياسة النقدية، وإنهاء الانقسام المصرفي، حيث استعرضت المبادرة التحديات الاقتصادية الحالية الناجمة عن ازمة الانقسام النقدي بين بنكي عدن وصنعاء، والتداعيات السلبية على الأوضاع الإنسانية والمعيشية لملايين المواطنين اليمنيين بشكل سلبي.
واوصت المبادرة بتشكل لجنة مشتركة من قبل إدارتي البنك المركزي في عدن وصنعاء تتكون من عدد من المحترفين التقنيين والماليين من إدارة البنكين، للجلوس على طاولة واحدة للعمل على تقريب وجهات النظر لدى الطرفين ومناقشة الحلول التي اقترحتها المبادرة لإنهاء حالة الانقسام النقدي الحالية.
وقدمت المبادرة مصفوفة من التوصيات ومقترحات الحلول العملية لحل مشكلة الازمة النقدية وإنهاء الانقسام النقدي بين بنكي عدن وصنعاء.
كما أوصت المبادرة بتشـكيل مجموعـة عمـل مشـتركة للإشراف على أنشـطة القطـاع المصرفي، وإنشـاء قاعـدة بيانـات موحـدة للقطـاع المصرفي، وتطبيـق أدلـة مكافحـة غسـل الأموال وتمويل الإرهاب.
وتضمنت المبادرة موجهات عامة منها تحييــد الأنشطة المصرفية المحلية، وإنشــاء ميزانيــة موحــدة للقطــاع المصرفي، واعتمــاد سياســات نقديــة تعمــل على تحســين أداء القطــاع المصرفي والاقتصادي بشــكل عــام، إضافة إلى إنهـاء ازدواجيـة الإجراءات والأنظمة بجميـع أشـكالها والسـماح للخبـراء الفنييـن بعرض كافـة نقـاط الخـاف للمناقشـة والدراسـة واقتـراح الحلـول اللازمة.
فريق الإصلاحات الاقتصادية دعا إلى إنشاء شــبكات ماليــة فعالــة ذات مســؤولية محــدودة للتحكــم في حركـة وتدفـق السـيولة، داخليـا وخارجيـا، بمـا يعـزز كفـاءة السياسـات النقديـة المعتمدة وأنظمــة الرقابــة المصاحبة لهــا.
كما طالب بتكثيف الجهود لتوحيـد مصـادر العملات الأجنبية وفـق آليـة توحـد البنـوك وشـركات الصرافـة في كيــان واحــد مثــل مــزادات العمــات الأجنبية التــي تنظمهــا البنــوك المركزية في الـدول الأخرى، سـتعمل مثـل هـذه الآلية على اسـتقرار العـرض والطلـب على العملات الأجنبية للمسـتوردين والمساهمة في توافـر واسـتقرار أسـعار السـلع الأساسية، والتـي مبادرة يجـب أن تكـون لهـا الأولوية في هـذه العمليـة، لإنهاء التباينات المصرفية.